السلام والحرب في فلسطين عبر العصور

1٬759

” من الذاكرة” زيدان كفافي

أبدأ حديثي في هذه المقالة بالسلام قبل الحرب حيث أن زمن السلم أطول بكثير من زمن الحرب، وأخص فلسطين بالقول لأنها من أكثر البقع الجغرافية العالمية التي شهدت تقلباً بين الحالتين. وحيث أن مشكلتنا الحالية مع الصهيونية العالمية، والسبب من أصله أن أرض فلسطين هي في الأصل لسكانها المتجذرين فيها منذ حوالي مليوني عام، يقابلها سردية توراتية عمرها حوالي 3200 سنة على أبعد تقدير تستند إلى وعد إلهي لا نعرف من هو هذا الإله الذي يوزع الأراضي بين الناس.

هذه السردية الدينية التوراتية لا تعتمد على وثائق أو مصادر تاريخية مكتوبة بقدر ما هي إلا وعد من إله، وأما السردية الصحيحة فهي ما يوجد أو يعثر عليه في جوف أرض فلسطين من مخلفات أثرية، والكتابات والنقوش الأثرية التي كتبها أهلها منذ معرفة الكتابة في المشرق في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد. واكتشفت آثار في كهوف الجليل والكرمل الطابون والعامود وكبارا والزطية تعود لمئات الآلاف من السنين، أما الموقع الأقدم في فلسطين حتى الآن في فلسطين فهو موقع “العبيدية” الذي يبعد حوالي خمسة كيلومترات

إلى الجنوب الغربي من بحيرة طبرية، ويؤرخ لحوالي مليون وأربعماية ألف سنة من الحاضر. سادت فلسطين خلال العصور البرونزية مجموعة من المدن والقرى تذكر منها تل القاضي تل دان، و تل وقاص (حاصور)، وتل المتسلم (مجدو)، وتل تعنك وجنين وتل بيسان وتل كيسان، ويافا، وأريحا والقدس، وتل بيت مرسم وتل ارميده (الخليل)، وتل عراد جنوب غربي البحر الميت، وتل العجول (وادي غزة)، ودير البلح، وغيرها. وحكم على هذه المدن حكام محليين. وعاشت هذه المدن في بحبوحة من العيش الدرجة أن احدى البرديات الفرعونية وصفتها بأنها أرض اللبن والعسل. وعلى الرغم من وقوع هذه البلاد تحت السيطرة المصرية في الفترة بين حوالي 1550 1200 قبل الميلاد، إلا أن نظام دولة المدينة بقي هو السائد فيها، علماً أنها دفعت الجزية السنوية للفرعون في مصر. لكن هذا الأمر لم يمنع أهلها من مواصلة التجارة مع البلدان القريبة والبعيدة بشهادة الآثار المكتشفة، ووصل أهلها لدرجة حضارية متقدمة جداً. لكننا لا ننكر وجود صراعات عسكرية وسياسية بين حكام هذه المدن ، وثبت هذا من خلال “رسائل تل العمارنة” المؤرخة للفترة بين حوالي 1400 – 1350 قبل الميلاد، إذ أن حكام المدن الكنعانية وملوكها أرسلوا رسائل مكتوبة بالخط المسماري الأكادي للفرعون المصري في الفترة بين حوالي 1400 – 1350 قبل الميلاد، بلغ عددها حوالي 400 رسالة من مختلف مدن بلاد الشام، يطلبون من الفرعون مساعدتهم ضد بعضهم بعضا. بيت القصيد من هذا الكلام، أن فلسطين شهدت ظهور الدولة كنظام سياسي، حتى قبل حتى قبل وجود موسى وخروجه من مصر في حوالي 1200 قبل الميلاد حسب تاريخهم وخروجه من مصر “هذا إن حصل الخروج بنفس العدد والضخامة التي ذكرتها التوراة”.

قبل حوالي 1200 قبل الميلاد عاشت بلاد شرقي المتوسط بسلام، حيث تواجدت دويلات المدن الكنعانية علماً أنها كانت خاضعة للسيطرة المصرية. لكن ما يدلل على ازدهار بلاد الشام في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد هو الصلات التجارية القريبة والبعيدة بين مناطق حوض البحر المتوسط، إذ عثر في الأردن وفلسطين على قطع أثرية مستوردة من بلاد ما يسنيا / اليونان وقبرص . إذن كان هناك سلام عم المنطقة على الرغم من السيطرة المصرية عليها.

تذكر الكتب الدينية أن بني اسرائيل خرجوا من مصر إلى بلاد كنعان، ويقدر بعض الباحثين أن هذا ربما حصل زمن الفرعون مرنبتاح (حوالي 1213 1203 قبل الميلاد) رابع ملوك الأسرة التاسعة عشرة ، علماً أن هذه الحادثة لم تذكر في أي مصدر مكتوب وتصف النصوص التوراتية الأحداث التي واجهتهم أثناء خروجهم من مصر، ومرورهم بالمناطق الجغرافية في سيناء وجنوبي الأردن حتى وصلوا إلى أريحا، وللأسف فإن المصادر التاريخية المكتوبة تخلو كليا من الحديث عن فلسطين خلال الفترة بين 1200 إلى 1000 قبل الميلاد، ولهذا تبقى التوراة هي العكازة التي يتكأ عليها أهل السردية التوراتية ، وتلخصها باختصار شديد أدناه:

تقول النصوص التوراتية أن عدد الذين خرجوا من مصر قارب الستماية ألف 600 ألف شخص يهودي. طبعاً هذا العدد مبالغ جداً فيه، ولو افترضنا أن أبناء يعقوب الذين قدموا إلى مصر من أرض كنعان زمن حكم الهكسوس على الدلتا في مصر (حوالي 1650 – 1550 قبل الميلاد)، ونسلهم في ذلك الوقت بلغ حوالي 100 شخصاً ( رجالاً ونساء) فتزايدوا خلال 400 عاماً وأصبح عددهم 600 ألف فرداً. وبحسبة بسيطة يعني أن معدل تزايدهم في السنة الواحدة 1500 مولوداً ضاع هؤلاء مدة أربعون عاماً في سيناء، ولكم أن تقدروا عدد مواليد هذا العدد الكبير خلال الأربعين عاماً، وكم أصبح عددهم حين وصلوا فلسطين….!!!.

تقول التوراة أنهم حين وصلوا إلى جنوبي فلسطين أرسلوا دورية كاشفة تستطلع سكان جنوبها، فعادت الدورية وقالت أن فيها قوماً جبارين، ومن هنا تحولوا إلى جنوبي الأردن، وحيث أن التوراة تذكر أن أهل منطقة جنوبي وادي الحسا هم من نسل “عيسو” ابن اسحق فسمحوا لهم بالمرور من أراضيهم بشكل سلمي. واستمروا بسيرهم شمالاً حتى وصلوا إلى مدينة “حشبون” ، والتي كانت عاصمة لملكها “سيحون” فدخلوها عنوة ودمروها واعتقد بعض الباحثين التوراتيين أن مدينة “حسبان” الحالية هي “حشبون” التوراتية، ومن هنا قامت بعثة أمريكية بالتنقيب في الموقع منذ عام 1969م ، لكنهم لم يعثروا على أية آثار تدلل على صحة ما ذكرته التوراة، وثبت أن حسبان الأردنية لا علاقة لها بحشبون التوراتية.

تضيف التوراة أن كلاً من موسى وهرون توفيا وهم في طريقهم إلى فلسطين، وتولى من بعدهم يشوع (يوشع) بن نون القيادة وعبر بالاسرائيليين نهر الأردن عن أي جسر عبروا ..؟!) حتى وصلوا إلى أريحا، ودخلوها بالقوة بعد أن دمروها. وحرفوها بعد أن استشاروا مومساً من ساكنيها حول كيفية دخولها. هذا القول تم بطلانه بعد الحفريات الأثرية التي أجرتها العالمة الانجليزية كاثلين كنيون في الفترة بين سنتي 1952 و 1958 في تل السلطان. إذن هذه حرب ومعركة غير موجودة على أرض الواقع ، لكنها معشعشة في أذهان من يعتبرونها تاريخاً لهم. ومن المعلوم أن تل السلطان / أريحا القديمة تعد من أهم المواقع الأثرية في بلاد الشام، إذ أنها سكنت ابتداء من حوالي 12.000 ألف سنة حتى الحاضر، ولم يعثر فيها على أية دلائل أثرية من فترة الخروج. ويستمر الحديث بتدمير المدن الفلسطينية الكنعانية الواحدة تلو الأخرى، لكن هذا كان في ذهن من كتب النص التوراتي، إذ أن الحفريات الأثرية لم تثبت على الإطلاق ما ذهبت إليه النصوص التوراتية، علماً أن الآثاريين الصهاينة يخترعونها اختراعاً.

وحتى نثبت قولنا نقدم سردية التوراة حول احتلال داود المدينة أور سالم “يروشالايم” اليبوسية. كانت أور. سالم دولة (City-State) من ضمن دول المدن في كنعان، وحين أشتد الأمر على حاكمها عبدي حبا / هبة أرسل رسالة رسالة تل العمارنة رقم (190) إلى الفرعون المصري تحتموس الرابع يطلب منه المساعدة

هذا نصها:

” إلى الملك مولاي، هكذا يقول خادمك” عبدي حبا” ، انظر إلى ما فعله ” ملك ايلو” و ” شوارداتا” بأراضي الملك مولاي. لقد دفعوا بقوات “جازر ” ومن “جت” ومن “كيله”، أخذوا أراضي ” روبوتو” وأراضي الملك سلمت إلى شعب ” العابيرو”، حتى بلدة في أراضي “أورشليم من أملاك سيدي اسمها “بيت لحم” قد
أعطنيت إلى “كيله”، فليصنع مليكي إلى خادمه “عبدي حبا” ويرسل قوات تعيد الأراضي الملكية إلى الملك وإذا لم تصل القوات فإن أراضي الملك ستغدوا للعابيرو.”

طبعاً عبدي حبا يطلب نجدة الفرعون المصري لأنه كان يدفع له الجزية السنوية من انتاج أرضه التي زرعها. لكن المهم في الرسالة أنها تشير إلى وجود مدينة مستقلة لها حاكم في الفترة بين حوالي 1400-1350 قبل الميلاد، أي قبل تأسيس دولة داوود وسليمان المزعومة في حوالي 1004 قبل الميلاد، هذا إن وجدت . بالمناسبة، لا تشير المصادر التاريخية من قريب أو بعيد إلى تأسيس دولة للإسرائيليين في الفترة بين حوالي 1004 – 923 قبل الميلاد، ولا إلى أن أور – سالم (يروشالايم) كانت عاصمة لها. لكن، تذكر المصادر الآشورية وجود وحدات سياسية يهودية في السامرة بيت عمري ويروشلايم (يهوذا) بعد القرن العاشر قبل الميلاد أي على أجزاء محدودة من أرض فلسطين التاريخية.

عاشت هاتان الوحدتان السياستان “بيت عمري” و “يهوذا” في خلاف وصراع بينهما ، ومع الدول الآرامية والعمونية والمؤابية المحيطة بهما. لكن كان في فلسطين إضافة لهاتين الدولتين مدن كنعانية ودولة لشعب البلست إحدى قبائل شعوب البحر” والتي سكنت منطقة قطاع غزة الحالي على أي حال قضي على هاتين الوحدتين الشمالية في عام 722 قبل الميلاد بواسطة الملك الآشوري سرجون الثاني، والجنوبية عن طريق الملك الكندي نبوخذ نصر في عام 586 قبل الميلاد، ولم تقم لهم قائمة بعدها. وسبى نبوخذ نصر من أورشليم أهل البيت الحاكم ، والكهنة، والصناع وأبقى على الكهول والزراع في فلسطين.

أعاد الفرس اليهود المسبيين من بابل إلى فلسطين خلال النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد على يد الملكين قورش حوالي 569 – 529 قبل الميلاد وقمبيز حوالي 529 – 522 قبل الميلاد)، وأعادوا لهم اعتبارهما الديني في فلسطين. وعندما رجعوا وجدوا أن من تبقى منهم قد تزاوج مع الكنعانيين، فاعتبروهم خارجين عن الديانة اليهودية، وأخرجوهم من أورشليم إلى “جرزيم” و “عيبال”، ويعتبر هؤلاء هم اليهود الأصليين الذين لهم نوراتهم التي تتكون من الكتب الخمس الأولى في التوراة “التناخ”. أما الذين أعادهم الفرس من السبي ، فقد قام كهنتهم وعلى رأسهم الكاهن “عزرا” بكتابة وإضافة أسفار جديدة للتوراة يعتقد أنها متأثرة بالأدب البابلي. ومن هنا لا يزال الصراع قائماً بين الجهتين على من هو اليهودي الصحيح ، ولا يعترف أحدهما بنقاء يهودية الآخر.

من المعلوم أن عموم فلسطين عاشت قبل دخول اليونان وخلال حكمهم في بحبوحة من العيش، إذ عثر على بقايا أثرية تشير إلى ازدهار الزراعة وخاصة أشجار المثمرة ، مثل التين والزيتون، خاصة في منطقة المرتفعات الجبلية الفلسطينية مثل ما عثر عليه في تل المقنع من معاصر للزيت ومخازن للتين المجفف. علماً أن بلاد شرقي المتوسط قد خضعت قبل مجيء الاسكندر المكدوني في حوالي 332 قبل الميلاد السيطرة الآشوريين، والبابليين الجدد، وتبعهم الفرس. صحيح أن جميع ممالك بلاد الشام خضعت لحكم هذه الدول لكنه لم يكن احتلالاً بقدر ما هو اخضاع للسيطرة ودفع الجزية لهذه القوى العظمى في حينه

حكم اليونان والروم على معظم بلاد الشام، بما في ذلك فلسطين، خلال الفترة بين 332 قبل الميلاد مجيء الاسكندر المكدوني وحتى 636 ميلادي ( معركة اليرموك ودخول بلاد الشام تحت الحكم الاسلامي. علماً أن الحضارة الغربية اللغة والديانات والفنون والعمارة قد سيطرت على الحضارة المشرقية في هذه الفترة التاريخية. لكن شهدت هذه الفترة ثورات محلية على اليونان والروم قضي عليها من القوات الرومية على الدوام. ومن الواجب ذكره أن كثيراً من سكان فلسطين ومنهم طائفتين من الطائفة اليهودية قد تأثروا، بل تبنوا سمات الحضارة اليونانية – الرومية وبطبيعة الحال هذا الأمر لم يعجب الطوائف اليهودية الأخرى (الإسينيون) ، فتركوا أورشليم إلى منطقة قمران في شمال غربي البحر الميت وشهدت هذه الفترة ظهور السيد

المسيح عليه السلام، وبقي المسيحيون يتعبدون بالخفية ، خوفاً من القتل من الوثنيين واليهود، حتى أقر امبراطور روما قسطنطين بأن الديانة المسيحية هي الدين الرسمي للدولة في حوالي 324 ميلادي.

شهدت الفترة البيزنطية (324) – 636 قبل الميلاد) ، أي اعتناق معظم سكان بلاد الشام للمسيحية، إن لم يكن جميعهم الديانة المسيحية، إزدهاراً كبيراً فبنيت الكنائس وزاد التواصل مع مناطق حوض البحر المتوسط. لكن هذا الوقت شهد أيضاً صراعات دولية بين الروم البيزنطيين من جهة والفرس من جهة أخرى. إذ حصل أن هاجم الفرس في عام 614 ميلادي مدينة “أورشليم” وأجرموا بقتل المسيحيين فيها، وكان أن دلهم على الطريق يهودي من سكان هذه المدينة. ومن هنا أقرت العهدة العمرية أن لا يبقى بين سكان أورشليم أي يهودي، فتفرقوا في جميع أنحاء البلاد.

دخل المسلمون بلاد الشام بعد انتصارهم في معركة اليرموك عام 636 ميلادي ، ونظراً لدخول أعراق وأجناس مختلفة في الدين الاسلامي، إلى جانب بقاء عدد لا بأس به من أصحاب الديانة المسيحية على ديانتهم ، عم
المشرق حضارة جديدة في دينها ولغتها العربية وعمارتها الاسلامية والفنون ونظام الدولة . وازدهرت البلاد ازهاراً كبيراً حتى شن الفرنجة حروبهم على المنطقة، واحتلوها لمدة حوالي مائتي (200) عاماً، أي من عام 1096 وحتى 1291 ميلادي. وعانى جميع سكان بلاد الشام على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم من هذا

الاحتلال.

مرت البلاد خلال الفترة بين حوالي 1291 – 1917 ميلادي بحكم الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، واختلفت طبيعة الحياة بين صعود وهبوط. لكن وبرأيي أنه وعلى الرغم من سيادة الأحوال السلمية على البلاد ، لكنها شهدت ازدهاراً في بعض الأوقات وتراجعاً حضارياً في أوقات أخرى، خاصة خلال أواخر حكم الدولة العثمانية. وبعد الحرب العالمية الأولى وقعت البلاد تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي، وبدأ العمل على تأسيس دولة اسرائيل في فلسطين بمساعدة البريطانيين بشكل خاص، والأوروبيين بشكل عام للتخلص منهم. وبحثوا واقترحوا عدة مناطق جغرافية لترحيلهم إليها وتأسيس دولة لهم هناك، وتمكنوا من تحقيق هذا في عام 1948م على أجزاء من فلسطين وحيث أن فلسطين شهدت هجرات اليهود من مختلف أصقاع العالم قبل انشاء هذه الدولة ، بما في ذلك الدول العربية، إلى فلسطين. عاش الناس في بداية الأمر في فلسطين بهدوء وسلام، على الرغم من اختلاف أصولهم وعقائدهم ، حتى اكتشف أهل فلسطين أن هدف هؤلاء طردهم من أرضهم، فحدثت الثورات ومن أهمها ثورة عام 1936م.

بعد اكتمال احتلال جميع أرض فلسطين من قبل الصهاينة في عام 1967م، هب أهلها لتخليصها وتحريرها، وما حرب غزة هذه الأيام إلا جزءاً من حرب التحرير وستكشف لنا الأيام القادمة سرها ونتيجتها، والله غالب على أمره، وإن لناظره قريب.

عمان في 11/23/ 2023م

التعليقات مغلقة.