يوم أمام المدعي العام

57

كتب الدكتور ماجد الخواجا..

أمضيت عقودا وأنا أمارس الكتابة الصحفية الناقدة الساخرة المزعجة لكثير من التصريحات أو الأداءات الرسمية التي عليها علامات استفهام، كان الحبر يسيل تبعا لما تتوارد من أفكار لا قيد عليه غير الرقابة الذاتية وعدد من الاعتبارات المجتمعية التي تشكل أدوات ضغط غير معلنة. مع خشية من ممحاة رئيس التحرير ذات الصبغة الأمنية.
كتبت في عهد كافة الحكومات ابتداء من حكومة أبو الراغب والفايز والبخيت الأولى وليس انتهاء بالرزاز والخصاونة.
نعم كنت أتعرض لكثيرمن المحاذير والتهديدات والتضييقات من هذه الحكومة أو تلك، لكنني لم أتعرض للإحالة على المدعي العام إلا هذه المرة في عهد حكومة الرزاز وعبر شكوى سميت بشكوى جرائم الكترونية ، يتم فيها إحالة المشتكى عليه إلى إدارة البحث الجنائي وحدة الجرائم الالكترونية.
حين اتصل بي أحد ضباط الوحدة وهو للحقيقة كان لبقا ودمثا يطلب مني مراجعتهم، كان الاتصال مساء الخميس، ومنحني وقتا بأن أراجعهم صباح الجمعة، قلت له : هل تداومون يوم الجمعة ؟ أجابني: نحن نداوم طيلة الوقت وكل الأيام.
ذهبت صباح الجمعة إلى البحث الجنائي، حيث تم مواجهتي برسالة عبرالواتس أب مرسلة من هاتفي إلى أحد الوزراء وسؤال عن تأكيد أنني المرسل لها ولماذا.. أجبتهم بنعم كبيرة وأن ما أرسلته عبارة عن أسئلة تتردد بين الناس عن ممارسات ذلك الوزير، وأنني قمت بإرسالها له بحكم موقعه وليس بقصد الإساءة الشخصية، وأنه لو ارتقت الرسالة إلى مقالة لأكملتها ونشرتها، فهو طالما رضي أن يكون مسؤولا عاما، هذا يعني أنه شخصية عامة ووجب علينا كمواطنين مراقبة ممارساته ومساءلته، ولا تتوافر تلك الأدوات إلا من خلال وسائل التواصل، إضافة إلى كوني كاتب صحفي ناقد منذ عشرات السنين.
بعيدا عن تفاصيل الموضوع ، ما أود قوله أن الشكوى تتعلق برسالة عبر الهاتف لشخصية عامة وهي عبارة عن مجموعة أسئلة متداولة في الشارع العام بما يختص بعمل ذلك الوزير.
حصلت على امتيازات تبين لي أنها لا تمنح بالعادة للمراجعين في شكاوى جرائم الكترونية، منها كمثال عدم سحب هاتفي الشخصي وإنزال ما عليه أو على الأقل مشاهدة ما عليه، عدم حجز حريتي لحين عرضي على المدعي العام، عدم ارسال مجموعة من البحث الجنائي لإلقاء القبض علي من منزلي.
تم أخذ إفادتي، وتم إطلاق سراحي شريطة أن أتعهد بالحضور حال الطلب من طرفهم.
بعد عدة أيام وردني اتصال يطلب مني الحضور صباحا مبكرا إلى البحث الجنائي/ وحدة الجرائم الالكترونية، وفعلا صحوت على غير العادة مبكرا جدا، وللحقيقة أنه ربما لم تر عيناي النوم ليلتها أرقا وحيرة مما ينتظرني، خاصة وأنها المرة الأولى التي أتعرض فيها لمثل هذا الموقف.
ما أن وصلت حتى تم اقتيادي إلى مديرية الشرطة القريبة، وما أن تم تسليمي لهم حتى وجدت نفسي أدخل في جملة اجراءات أمنية ومنها أخذ البصمات للأصابع والعيون والوجه وغيرها، ثم يبدو أنني ما زلت أحظى ببعض الحظوة من حيث أنه تم جلوسي في أحد المكاتب وليس فيما تدعى بالنظارة، بل وأكثر من ذلك سمح لي الاتصال لمرة واحدة من هاتفي.
مكثت في المكتب لساعة أو أكثر إلى حين استكمال إحضار بقية من سيعرضون على المدعي العام.
من الحديث الدائر ومع بيان خطورة الحالة التي يمكن أن أصل إليها، لم يخطرببالي إلا الاتصال بمركز حماية الصحفيين وابن عمي المحامي لعلهم يجدون مخرجا مما أنا فيه.
قال لي الضابط: قضيتك ليست سهلة، ويعتمد رجوعك للمديرية على تكييف المدعي العام لقضيتك، وعلى الأغلب سيكون لك إعادة، سألته ما معنى الإعادة؟ قال أن يتم إعادتك لتعرض على السيد المحافظ الحاكم الإداري وهو الذي يقرر توقيفك أو الإفراج عنك. قلت له حتى لو كان قرار المدعي العام بالإفراج أو تركي وشأني، قال: في هذه الحالة يتم عودتك للمديرية ومن ثم الإفراج عنك حسب الأصول.
تم ترتيبنا وسحب الهواتف منا وتم تقييد كل شخصين معا بقيد يدعى ( الكلبشات) ، ووجدت نفسي في سيارة الترحيلات أو ما تدعى بالزنزانة المتحركة بغرض نقلنا إلى المحكمة.
كانت الكلبش تضغط على معصمي، قلت للشرطي إنني لن أهرب ولست مجرما ، هل يمكن لك فك هذا القيد المزعج؟ أجابني بأنه يستحيل ذلك، لكنه سيخدمني بأن يقوم بتوسعة الكلبشات على يدي قليلا ، قلت له أرجوك أن تفعل، وفعلا فعل، كانت تلك اللحظة تساوي بقيمتها كرامة وحرية إنسان له حيثية واعتبارية وعمر يتجاوز الخمس عقود.
حين وصلنا المحكمة تم انزالنا من البوابة الخلفية للمحكمة، وتم اقتيادنا كل اثنين مقيدين مع بعض ، وتم إخلاء عدد من المقاعد لجلوسنا عليها بعيدا عن بقية المراجعين ( العاديين) في المحكمة.
طلب منا الصمت وعدم الحديث مع أي سخص لحين مثولنا أمام المدعي العام كلا حسب قضيته، شباب في العشرين والثلاثين من العمر هم من معي، قضاياهم متعددة ومتشعبة وتبدو عليهم الخبرة الكافية في التعامل مع تلك السياقات والإجراءات، لم يكن من المجموعة سواي ممن يدعون بقضايا الجرائم الالكترونية.
حين شاهدت المحامي نظر في عيني فوجدني ساهما لا أرسو على حال، لقد كنت أعيش لحظات وكأنها حلم طويل كئيب. حقا كان نهار طويل ممل كئيب جعلني أعيد ترتيب ذهني وأسئلتي التي أصبحت بحجم الفجيعة: هل يتم التعامل مع جميع الإعلاميين كما تم التعامل معي من حيث إجراءات ما قبل العرض على المدعي العام ؟ هل يعقل استخدام الإجراءات العقابية المتبعة مع ذوي الأسبقيات مع صاحب رأي وقلم وفكر؟
لن أحول الموضوع إلى دراما، لكن أقول : لماذا يتم التعامل مع شكاوى على صحفيين وإعلاميين بهذه الطريقة، ولماذا يتم تكييف التعبير عن الرأي كجريمة الكترونية وليست وجهة نظر قابلة للإعتراض من الطرف الآخر. ولماذا تتم مثل تلك الإجراءات وكأن صاحب الرأي يعادل صاحب الأسبقيات في التعامل معه.
إن قانون الجرائم الالكترونية مطلوب ومهم ويعمل على صيانة المجتمع ومقدراته ، لكن أن يصبح أداة لتكميم الأفواه، وأن يصبح سيفا مسلطا بيد المسؤول والشخصية العامة تحت ذريعة اغتيال الشخصية، فهذه ستبقى وصمة في جبين حرية الرأي والتعبير.
أستذكر هنا ما قاله العلامة الفيلسوف ” من تصدر لخدمة العامة، فلا بد أن يتصدق ببعض من عرضه على الناس، لأنه لا محاله مشتوم، حتى وإن واصل الليل بالنهار. ابن حزم الأندلسي.

اترك رد