انتصار أممي للقدس

د. محمد طالب عبيدات

صوتت الغالبية العظمى من دول العالم في الأمم المتحدة لصالح القدس، رافضة قرار الرئيس الأمريكي ترامب، حيث تحدّى العالم بأسره في جلسة طارئة للأمم المتّحدة، قرار الرئيس الأمريكي الأحادي الجانب لنقل سفارة بلاده للقدس، وسجّلت معظم دول العالم انتصاراً أممياً في العمق، إذ أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بـالأغلبية الساحقة مشروع قرار عربي إسلامي يرفض أي إجراءات تهدف إلى تغيير الوضع في القدس، وذلك يعني ضمنياً رفض القرار الأميركي باعتبار المدينة المقدسة عاصمة إسرائيل.

مشروع القرار الأممي الذي تقدّمت به تركيا واليمن باسم المجموعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، سجّل تصويتاً غير مسبوق لصالح القدس، إذ وافق على القرار 128 صوتاً مقابل 9 أصوات رافضة وامتناع 35 عن التصويت، والقرار الأممي أكّد على أن أي إجراءات تهدف إلى تغيير طابع مدينة القدس ملغاة وباطلة، وطالب بتكثيف الجهود الدولية لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم في إقليم الشرق الأوسط، وأردف على قرار الجمعية العامة لجميع الدول بالامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس، والقرار الأممي ساندته الدول العربية والإسلامية قاطبةً وشرفاء العالم وصوتت معه بالرغم من لغة التشكيك والحرب الإعلامية التي مارسها رئيس الوزراء الإسرائيلي والإعلام الأمريكي قُبيل التصويت، وهذه وِقفة تُسجّل في ميزان القدس لكل الدول العربية والإسلامية وشرفاء العالم المحبين للسلام، والقرار الأممي رسالة قويّة للرد على قرار الرئيس الأمريكي بالرفض المطلق، وخصوصاً بعد التهديدات والمِنّة بقطع المساعدات المالية على الدول التي ستصوّت مع القرار، والقرار الأممي يُشكّل دعماً من المنظومة والشرعية الدولية للفلسطينيين لإثبات أن عاصمتهم القدس الشريف وأن الفلسطينيين ليسوا وحدهم في الميدان، وأن القرار الأمريكي جائر ويؤجّج المشاعر ويشكّل استفزازاً للمسلمين والمسيحيين على السواء.

وثمّنت المجموعة العربية في الأمم المتحدة أيضاً دور جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله تعالى، والذي كان له الفضل الأكبر في هذه السابقة التاريخية لصالح القدس، والدور الأردني في الحفاظ على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وأشادوا في توفير الحماية والتصدّي للمحاولات غير الشرعية بحكم الوصاية الهاشمية على المقدسات لامتلاكها الشرعية الدينية والقانونية والتاريخية في ذلك.

فهذا القرار الأممي فرصة لعزل الاحتلال الإسرائيلي، وهنالك فرصة كبيرة من خلاله لتوحيد الجهود العالمية لفرض حل الدولتين وإيجاد سلام شامل في إقليم الشرق الأوسط، من خلال ضغط المنظومة الدولية على أمريكا وإسرائيل، ومطلوب البناء على هذا القرار الأممي لصالح القدس وفلسطين والدول المُحبّة للسلام والتعايش لغايات تعضيد وتشبيك الجهود العالمية على سبيل الحل الشامل في فلسطين وإقليم الشرق الأوسط برمّته؛ لأن القدس هي مفتاح الحل السلمي.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد مشروع القرار العربي الذي طُرح على مجلس الأمن بشأن القدس، والذي طالب بإلغاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بأن القدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، كما دعا مشروع القرار جميع البلدان إلى الامتناع عن فتح سفارات في القدس، وعدم الاعتراف بأي إجراءات تتعارض مع قرارات الأمم المتحدة بشأن وضع المدينة المقدّسة.

فالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن معناه أن صوتا واحدا للولايات المتحدة الامريكية استخدمت فيه حق النقض أرجح من أصوات بقية أعضاء مجلس الأمن والبالغة 14 دولة صوّتت لصالح المشروع، والفيتو معناه أن نتيجة التصويت مهما كانت فإن صوت أمريكا ينقضها، وله وزن أكبر من بقية كل دول العالم المحبّة للعدل والسلام وإحقاق الحق في القدس وفلسطين، والفيتو يؤشّر للوزن النوعي للنظام العالمي الجديد في عهد الرئيس ترامب بقطب «أوحد» ألا وهو الولايات المتحدة الأمريكية دون غيرها وإبنتها المدلّلة «إسرائيل»، والفيتو استقواء واستهزاء واستخفاف بالعالم أجمع، لا بل مؤشر على أن لغة القوّة وليس العدل أو الحق هي السائدة في هذا العالم، والفيتو مؤشر بأن أمريكا وإسرائيل في كفّة الميزان الأولى وبقية العالم في كفّته الأخرى، والأرجح هي كفّته الأولى وإن كانت على غير حق، والفيتو مُحبط لكل القوى المُحبة للسلام والعدل، ومُثبّط لصوت الحكمة والعقل، ومُحرّك ومُغذّ لأصوات ولغة التطرّف والغلو.

فاصطفاف دول مجلس الأمن عدا أمريكا مع القرار العربي، مؤشر على نجاح الدبلوماسية الأردنية بقيادة جلالة الملك المعزّز، ووحدة العرب، إذ تم التواصل مع أعضاء مجلس الأمن جميعاً، فشكراً من القلب لكل الدول التي وقفت مع الحق العربي والعدل والسلام.

ومطلوب من دول العالم والجمعية العمومية للأمم المتحدة إعادة صياغة وقوننة آلية التصويت في مجلس الأمن؛ لتلغي مبدأ «الفيتو» كلياً، وإلّا فلا فائدة مرجوّة من أهداف وجودها! حيث آلية التصويت في مجلس الأمن مُحبطة وغير عادلة وظالمة، وأمريكا منحازة لإسرائيل ولا تسعى لأن تكون راعية لعملية السلام، وبقية العالم مع الحق العربي والإسلامي بالقدس، لكنّ الغلبة للأقوى وصوت البقية «مبحوح»، ولنا الله!

وعلى الصعيد الداخلي الأردني توالت ردود الأفعال الرافضة لقرار الرئيس الأمريكي، إذ أكّد الأردنيون الرسميون والشعبيون وقوفهم خلف رؤى جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين وموقفه الداعم للقدس، فقد لاقت دعوة لجنة الإعلام والتوجيه الوطني في مجلس النواب استحساناً من العديد من الأردنيين الرسميين والشعبيين، فقد حضر رئيس مجلس النواب وأعضاء اللجنة ونواب ووزراء الإعلام والتنمية السياسية والأوقاف، ووزراء سابقون، وأمناء عامين الأحزاب وبعض منظمات المجتمع المدني والصحفيون وغيرهم لغايات التباحث في تبعات القرار الأمريكي لنقل سفارتهم للقدس، إذ تشرّفت بالمشاركة باللقاء وظهرت على شاشة التلفزيون الأردني متحدّثة عن دور جلالة الملك المعزّز والدبلوماسية الأردنية ودورها في دعم القدس والمقدسات على المستويات كافة، بدءاً من الأمة العربية ومروراً بالأمة الإسلامية ووصولاً للعالمية في أوروبا والاتحاد الأوروبي وغيرها.

فكان اللقاء الذي دعت إليه لجنة الإعلام والتوجيه الوطني في مجلس النواب أكّد على توافقية وتكاملية الموقفين الرسمي والشعبي، حيث الأردنيون جميعاً على قلب رجل واحد وخلف قيادة جلالة الملك وداعمين لدبلوماسيته لمواجهة تبعات القرار، وكان هنالك إشادة بالإعلام الرسمي والأهلي ووسائل التواصل الإجتماعي لوضعهم القدس على سلّم الأولويات، وكان الجميع على مستوى الحدث، فالطروحات والمداخلات ركّزت على ضرورة تبني موقف عربي موحّد تجاه القدس والمقدسات، والطروحات تحدثت بضرورة أن يستمر رفض نقل السفارة من قبل الجميع بشكل منظّم وليس فزعويا، وأن يمتلك الجميع استراتيجية وطنية يتم العمل من خلالها، وأكّد المؤتمرون شجبهم واستنكارهم للفيتو الأمريكي على المشروع العربي- المصري، وطالبوا بتضافر الجهود الرسمية والشعبية في كل المواقف، و تداول المؤتمرون ضرورة رفع مذكرة شعبية قانونية للمرافعة في المحكمة الجنائية الدولية وتشكيل لجنة شعبية للمتابعة لدعم الموقف الرسمي وجهود جلالة الملك.

واليوم مطلوب أن يقدّم كلّ منا مؤسسات وأفرادا استطاعته لدعم القدس والمقدسات؛ ليكون ذلك في موازين وطنيته وقوميته وإنسانيته، ومطلوب الإيمان المطلق بعدالة القضية الفلسطينية والوصاية الهاشمية على القدس والمقدسات، وضرورة العمل الاستراتيجي لا الفزعوي لذلك، ومطلوب التحرّك للمجتمع المدني الأمريكي والكونغرس والنواب وغيرهم، إذ لهذه المؤسسات دور فاعل في إبطال قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس.

فالموقف الأردني تجاه القدس بشقيه الرسمي والشعبي يرفع الرأس عالياً، وهذا مؤشر على وقوف الأردنيين خلف جلالة الملك والقيادة الهاشمية وفِي خندق القدس، فبوركت كل الجهود الوطنية، كما بوركت وِقفة المجتمع الدولي لنُصرة القدس وفلسطين التي تُسجّل في التاريخ والإنسانية والعدل والسلام والحق، والمطلوب استثمار هذا النصر المؤزّر للبناء عليه في توضيح الحق الفلسطيني لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

رئيسي