فلسفة التقاعد عن العمل

كتب الدكتور. ماجد الخواجا …

تقوم فكرة التقاعد باعتبارها غاية إنسانية نبيلة تعمل على توفير التأمين المادي والصحي والاجتماعي للإنسان من خلال صيغة عقد بين الموظف والدولة ممثلة بهيئة التأمين أو الضمان أو التقاعد، يبين أنه في حال أدى الموظف العمل المطلوب منه طيلة مدة زمنية محددة تتفاوت نسبيا من دولة لأخرى لكنها تتراوح ما بين الستين إلى السبعين من العمر للذكور وأقل من ذلك بخمس سنوات إلى عشر سنوات للإناث، فإن الدولة تتكفل بمنح الموظف المتقاعد راتبا يسمى معاشا طيلة ما تبقى من عمره إلى حين وفاته.
فالتقاعد هو عقد ملزم للطرفين يكتمل تنفيذه بتحقيق متطلباته ، هذا يعني أن التقاعد هو حق للموظف، وهو يندرج ضمن لائحة أو مسار الحياة الوظيفية ودورة العمل ، ويفترض أن يكون الموظف على علم واطلاع ودراية بمساره الوظيفي وصولاً إلى مرحلة التقاعد، بل هناك دول يعرف فيها الموظف يوم تقاعده بشكل محدد منذ أن يبدأ أول يوم عمل وظيفي.
لكن في دولنا التي عاشت وتأسست على مفاهيم الرعاية والدولة الريعية، فإن من جملة المنح والمنع يظهر التقاعد كأحد الوسائل المستخدمة عقاباً أو ثواباً.
هل التقاعد عربيا بداية حياة أم نهايتها ؟ في الواقع العربي المتشظي في معظم الدول منه، فإن حياة الإنسان الوظيفية تكون نوعا من المعاناة ولا تحقق إلا الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، ولا مجال مطلقا للتفكير بأي تهور للرفاهية، وغالبية الموظفين مرتهنة رواتبهم للبنوك كأقساط شهرية من أجل شراء شقة أو سيارة أو أثاث أو أية حاجيات للحياة. ويقضي الموظف أيام الشهر منتظرا الراتب الذي سرعان ما يتبخر بين سداد مصاريف وأقساط وفواتير، ولا يبقى ثمة إمكانية لمجرد التفكير بجرأة في أية رفاهية بسيطة.
الإنسان يقسّم عادة حياته إلى مراحل ثلاث، تعتبر مرحلة التقاعد الفصل الثالث فيها، يراها البعض عبئا ونهاية وينظر إليها البعض الآخر على أنها بداية حياة الراحة والاستمتاع.
المتقاعدون فئة من المجتمع موجودة في كل المجتمعات العالمية وهي أكبر شريحة مجتمعية في ازدياد. والتقاعد هو مرحلة واقعية من مراحل كل موظف لكن رغم ذلك يمضي الكثير من الناس حياتهم بأكملها ينتظرون التقاعد، وعندما يحدث ذلك، لا تكون هذه التجربة جيدة كما كانوا يتوقعونها.
لقد وضع نظام الضمان الاجتماعي لحماية الأفراد اجتماعيا واقتصاديا، ويكون باقتطاع نسبة بسيطة من الراتب الشهري للعامل تُحول إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي وتقوم المؤسسة التي ينتمي إليها الموظف بدفع مساهمة عنه بنسبة معينة تحددها مؤسسة الضمان وهذه النسبة تختلف بين الدول، ويحصل الفرد على المال الذي تم اقتطاعه منه أثناء دورة عمله عند سن معينة يسمى “ السن القانوني للتقاعد” ويُصرف له المبلغ على شكل راتب شهري ولا يحق له أن يأخذه كاملا إلا في حالات معينة.
وتشمل الخدمات التي يقدمها الضمان الاجتماعي على توفير رواتب التقاعد والتأمين ضد العجز وتعويضات البطالة والرعاية الطبية والصحة والسلامة وغيرها. والضمان الاجتماعي مقر في المادة الـ22 من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” والذي ينص على أن كل شخص باعتباره عضوا في المجتمع له الحق في الضمان الاجتماعي بما يتفق مع موارد كل دولة، من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها من أجل كرامة الإنسان، وكل دولة وقّعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واجب عليها أن توفر حياة كريمة لأفراد المجتمع.
ورغم ذلك يمضي الكثير من الناس حياتهم بأكملها ينتظرون التقاعد، وعندما يحدث ذلك، لا تكون هذه التجربة جيدة كما كانوا يتوقعونها. أحد هذه التفسيرات هو أن المرء الذي عمل لسنوات عديدة، يتأخر كثيرا كي يعتاد على دوره الاجتماعي الجديد. الآن أصبح شخصا “عديم النفع” لسوق العمل.
هناك سبب آخر وهو أن التقاعد يرتبط أيضا بالشيخوخة، وبالتالي بنهاية الحياة عمليا. يكفي مشاهدة عدد المؤسسات التي ليست مستعدة بعد لاستقبال كبار السن، فكيف يكون الموضوع بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الذين سوف يبقون في المنزل جالسين طوال الوقت على الكرسي الهزاز.
الدراسات والأبحاث النفسية أكدت أن الإنسان عندما يتوقف عن العمل تتوقف معه طاقات كبيرة جسدية ونفسية وذهنية، ومن ثم لا تجد تلك الطاقات مخرجا لها وهو ما يؤدي بشكل مباشر وسريع إلى حدوث اضطرابات نفسية وذهنية غالبا ستكون هي بداية رحلة التدهور السريع في صحته الجسدية والنفسية.
وعلى الرغم من وجود الكثير من الضغوط الاجتماعية، فإن هناك الكثير من الأخصائيين يؤكدون أن الحياة تبدأ بعد التقاعد، فالعمر الثالث هو المرحلة الأفضل كي يعتني الإنسان بذاته ويكون قريبا من العائلة والأقارب، وتحقيق الأحلام التي تم تأجيلها بسبب عدم توفر الوقت لذلك.
يعتبر الرئيس أوتو فون بسمارك من أوائل الحكام الذين سنوا نظام التقاعد. كان ذلك في ألمانيا عام 1880.
وبلغت فاتورة التقاعد في الأردن 1.165 مليار دينار مقارنة مع 1.1 مليار دينار في نفس الفترة من العام 2018. وبلغ أعداد المتقاعدين 363,645 متقاعدا مقارنة مع 348,525 متقاعدا في نفس الفترة من العام ا2018، بارتفاع نسبته 4.3 %.، وشكلت فاتورة التقاعد نحو 17.7 % من إجمالي النفقات الجارية. كما شكل عدد (متقاعد أصيل) نسبة 86.9 % من إجمالي قيمة نفقات المتقاعدين في حين شكل عدد (متقاعد وريث) 13.1 %.
وبالنظر إلى فاتورة التقاعد عبر السنوات نرى أنها تضاعفت في الموازنة العامة نحو ثلاثة أضعاف منذ العام 2003 وحتى عامنا الحالي لتصل إلى 1.326 مليار دينار مقارنة مع 345 مليون دينار قبل 13 عاما.
واعتبارا من العام 2003 فقد تم تحويل الموظفين والعسكريين الى مظلة الضمان الأجتماعي بدلا من مظلة التقاعد المدني، حيث تم تحويل الموظفين المعينين في القطاع الحكومي اعتبارا من العام 1995 والمنتسبين في الأجهزة العسكرية والأمنية وذلك بهدف الحد من الارتفاع المتزايد لفاتورة التقاعد والسير نحو تخفيضها.
إن التقاعد هو حق اجتماعي وانساني ووظيفي وحياتي للفرد، ولكن أيضا ينبغي مراعاة أن هذا المتقاعد وأتحدث عن ذوي الرواتب المتدنية يخرجون من الوظيفة البائسة ماديا بالأصل، إلى التقاعد الذي لا يقيم أودا ولا يحفظ كرامة ضمن المعايير المتبعة حاليا.