البطاينة يكتب: الحوار ! النص الغائب في المشهد السياسي الأردني

‏‎كتب المهندس سليم البطاينة..
‏‎

‏‎لنعد إلى واقعنا كونه يتحرك من سيء إلى أسوء كون حالة التذمر التي نتلمسها ونراها ليست بالأمر الخفي، ومن حقنا أن ننظر في المرآة ونطل على الحقائق ومحاولة الاستنطاق ومعرفة التفاصيل، وأن نُشير إلى مواقع الخلل لنُصحح ما هو مُختل، لا أن نكابر فيما لا تصح فيه المكابرة، فالفراغ السياسي كالتجويف في أي بناء قد تراه قوياً لكنه لا يصمد أمام أية زلازل محتملة.

‏‎فثمة مقولة للصحفيه الفلبينية الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٢١ Maria Ressa: “أن عالماً بلا حقائق يعني عالماً خالياً من الحقيقة والثقة”

‏‎فضياع البوصلة هو أقرب ما يمكن توصيفه في المشهد المرتبك، وغياب الإصلاح الحقيقي هو ( كعب أخيل ) تنفذ منه كل السهام… فالفساد في الأردن جعل أي خيمة إصلاح تُقام من غير أوتاد.

‏‎وهناك من يعيش حالة نكران لا تعنيه الحقائق، والدولة للأسف مازالت تفتقد لنظام الإنذار المبكر المعتمد على المعرفة، وتعيش في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، ولا حد أدنى لديها من الرؤية للأيام القادمة.

‏‎فبعد مرور سنوات طويلة لم تُنتج لنا تلك السنوات نموذجاً للإحترافية السياسية ! بل على العكس تماماً قدمت لنا الإنموذج السياسي ( الديماغوجي ) الذي يعمل وفق معادلة السلطة التي تلد الثروة.

‏‎على أي حال المشهد الحالي لا يسُر الصديق ولا يخدم مصالح الناس ، ونال من هيبة الدولة ومستوى كفائتها في قدرتها على إدارة أزمة ومشهد يلتف الناس حوله ويثقون به… فهناك أمور يمكن للمواطن البسيط تلمسها نتيجة تقديرات وتوقعات واستنتاجات، لكنها في أغلب الأحوال لا تبتعد عن حجم المعرفة مما يشاهده على الساحة.

‏‎فالقنوات في حالة انسداد والحوار العام في حالة مماثلة وفي أشد درجاته الإنحدارية ، فهو النص الغائب في المشهد، رغم أنه فرصة لاستكشاف مواهب البلد وتجديد نخبها السياسية … وعن طريقه نؤسس لجيل من الإصلاحات ونتجاوز منطق الخلاف إلى سجل الاختلاف.

‏‎فرغم الأصوات القليلة التي تظهر هنا وهناك فإن المردود ما زال في خانة الصفر، فالحقائق والتفاصيل يصعب قراءتها وكالعادة في طي الكتمان لا نعرف عنها شيئاً ؟ والسكوت الملتبس للكثيرين عن الإدلاء برأيهم فيما يحدث لا يعني القبول، فهو سكوت العارف أن أي حديث عقلاني لن يسمع في خضم الأنشغال بالصغائر والاجندات الضيقة … فالدولة وللأسف تعودت أن لا تستمع إلا لصوتها والأعتماد على ثقافة رجع الصدى !!

‏‎هنا علينا أن نخاطب واقعنا الحالي بمسميات وشرح جديد لا يخشى الصراخ والضجيج وإثارة الغبار بالمعلبات السياسية منتهية الصلاحية … إذ لا يحتاج تشخيص أزماتنا إلى كثير من التعمق والبحث والتحليل، فجميع الأسباب واضحة للعيان، وعلى ما يبدو أننا وصلنا عنق الزجاجة وخرقنا جدار الصمت في كل شيء ، وجاوزنا كل الأسقف الممكنة ، فهناك قضايا مهمة يرجع عدم حلها إلى وجود قوى مضادة.

‏‎فنحن في حقبة أزمات تتحرك بين السخونة والغليان وندور في حلقة مفرغة ومن فشل الى مزيد منه، ولا يوجد هناك من يسمع أو يريد أن يسمع، و هناك من يغامر باستقرار البلاد حيث ما زالت الدولة العميقة تُعالج مُشكِلاتُنا المؤلمة بمزيد من الاجراءات المؤلمة…
‏‎ولن نتمكن من تقديم قراءة صحيحة للمشهد السياسي دون التوقف عند أزمة التفكير والعقل المأزوم، فالتعاطي مع المشهد السياسي العام يغفل الغوص العميق في جوهر القضايا المهمة … فحين تعمى البصيرةً السياسية ويختل أدراك المرء بتقديره لحقائق الأمور يكون الخذلان والفشل.

‏‎فكل قوانين الانتخاب تم تفصيلها كي تُنتج برلمانات ضعيفة، والتشريعات المقيدة للحريات و تقويض الأسرة تم تمريرها بعبارات مطاطة.

‏‎كفى ما حدث من عبثٍ أضاع البلد وكفى في منافقة الدولة، فحينما كنا نحذر كان البعض يقول أن ذلك إفراط في التشاؤم … فوضع الأردن لا يحتمل التسويف والمماطلة فالكل يعرف الداء لكنه لا يتجرع مرارة الدواء، وبسبب ذلك غرقنا في التناقض إلى حد التناغم في التناقض، ووصلنا لحقيقة مفادها أن المستقبل بات بعيداً وأبعد من أن نُدركه.

‏‎فلدي واقعة أحب أن يقرأها الجميع … في عام ٢٠١٤ ( وقتها كنت نائباً بمجلس النواب السابع عشر ) تلقيت دعوة من قبل الجمعية الأتحادية السويسرية والتي هي أعلى سلطة تشريعية في سويسرا، والتي تجتمع في مدينة بيرن لحضور مؤتمر يخص البرلمان الأوربي ،وكان المطلوب من كل مشارك تقديم ورقة بحثية ( الاوروبيين فقط ).

‏‎ومن الأوراق البحثية التي نالت أعجاب الجميع تلك الورقة التي قدمتها السيدة ( Caty Clement ) المحاضرة في مركز جنيف للسياسات الأمنية ( GCSP) والتي أشارت فيها إلى التفككية لإنيهار الدولة، وماذا هي أسباب فشل الدولة وأفلاسها !! وأكدت بورقتها على مجموعة من المتغيرات يمكن لها أن تؤدي إلى أنهيار الدولة ، ثلاث منها مرتبط بالبيئة السياسية الداخلية مثل ( العامل الأقتصادي ونمط الإقتصاد السياسي ، وقوة المجتمع ) ، وفشل الحكومات في إدارة شؤون الدولة ، وتفشي الفساد وضياع الموارد ، واستمرار الأزمات.

‏‎في جميع الأحوال نحن نعاني من فقر مدقع في الرؤى والتصورات والأفكار وهناك أزمة ثقة مخيفة رغم أن مؤشرات الثقة هي من أبرز أساسيات الحكم، ولأننا نعيش في حالة عبث في جميع الملفات، فأولى الخطوات هي إبعاد قوارض الارتزاق وصبيان السياسة عن المشهد ممن شاركوا وساهموا في هذا العبث ونشر الفساد لكي نضع بداية سليمة لا تشوبها شائبة، واستبدالهم برجال وشخصيات متزنة مدركة لخطورة المرحلة القادمة…‎فهنالك طارئون ودخلاء يتحصنون داخل أروقة الدولة ، والحل يكمن برحيلهم فهم أساس البلاء وسنام المصائب ، ولم نجد في ماضيهم ما يدعو للفخر ولا للاحترام…

سوف أتوقف عن الكتابة قبل ان تفقع مرارتي لكن لدي سؤال: هل يتمتع المسؤولين في الأردن بالحكمة والنُضج والمقدرة على إيجاد زاوية تكشف لهم الصورة أكثر وضوحاً؟