حكومة التعريفه… وتعريفة أبي..!
د. مفضي المومني.
في أواخر ستينيات القرن الماضي، وكنت ايامها في المرحلة الإبتدائية، وكنا قد انتقلنا من عمان للسكن في بلدتنا صخرة محافظة عجلون، وكنت العب في الحارة مع ابناء جيلي العابنا المشهورة في حينه(قلول، حدر بدر، 7 حجار، طمايه، … الخ) حضر والدي رحمه الله واقتادني من يدي الى المدرسة ولم أكن ابلغ سن القبول في الصف الأول بعد، و بإلحاح من والدي سجلني المدير (مستمع)، وانتظمت مع الطلبة واظهرت تميزا على اقراني، وكان ذلك يصل والدي أولا بأول، بالمناسبة والدي قرأ على نفسه ولم يدخل المدارس ولا الكتاب، إلا أنه كان مثقفا وقارئاً نهماً، وكان حريصاً على متابعتي، كنا عشرة أخوان، خمس أخوات وخمسة إخوان، وكان المصروف في تلك الأيام تعريفه في أحسن الأحوال من وقت لوقت، وليس كل يوم، لضيق ذات اليد لدى الأهالي، إلا أن والدي كان يميزني عن إخوتي ويعطيني (تعريفه أي خمس فلسات) مصروف اكثر من إخواني ، ولكي لا يعرفوا كان ينظر لي رحمه الله ويده في جيبه عندما أهم بالخروج للمدرسة، فأقترب لتلاصق يدي جيبه (فيزرق) اي يعطيني بالخفية التعريفة وأدسها من فوري في جيبي وأذهب إلى المدرسة، ولمن لا يعرف كانت التعريفة حجمها كبير بحجم فئة (الشلن ويساوي خمسة قروش)، طبعا بعد خروجي اتفقد التعريفة على الطريق اخرجها من جيبي واناظرها نظرة المحب، لأتفاجأ في بعض المرات أن والدي الذي كان يعتمد على اللمس لاختيار التعريفه من بين الفراطة في جيبه، قد اعطاني شلن، فأطير من الفرح حيث كان الشلن لفتى صغير مثلي في تلك الأيام ثروة! طبعا انتظر الفرصة بفارغ الصبر لأذهب لدكان ابو فليحان قرب المدرسة، واشتري بالشلن سندويشة فلافل وقنينة (كازوز اعتقد كان أسمه كراش) وحلو مطعم وبسكوت غندور وعلكة عاشور ، ومرات اعزم اصحابي كله بالشلن، او التعريفه مصروفي، طبعا حتى التعريفه في تلك الأيام كانت مصروفنا وكان هنالك عدد لا بأس فيه من المشتريات يمكن أن نشتريها بالتعريفه مثل( كمشة فيصيليه أو قضامة أو مخشرم او عشر حبات حلو شريط سمسم أو ثمان حبات حلو سوس، أو بسكوت وغيره… )، تغيرت الأيام وكبرنا ونسينا قيمة التعريفة والقرش وأم الخمسة وبعدها أم العشرة وبعدها ام العشرين وأم الخمسين، أمام التضخم وارتفاع الأسعار والضرائب والحكومات والوزارات والسرقات والفسادات…! لزوم السجع، نعم تذهب للحسبه فلا تكفي أم الخمسين لشراء مستلزمات العائلة، بعد أن كنا نعبئ صندوق السيارة بخمسة أو عشرة دنانير! إلى أن صدمني خبر تنزيل الحكومة للبنزين بقيمة خمس فلسات أي تعريفه نعم التعريفه ما غيرها… وهي تغادرنا ربما غير مأسوف عليها… بعد أن فعلت فعايلها فينا بنعومة أبو الرزاز ، الذي أصبحت طلته وأبتسامته نذير ويل على شعبنا، إقتصاديا وإجتماعيا وسياسيا، وحبسا وتوقيفاً وحدث ما استطعت لذلك سبيلا، وأعادني الخبر لأيام تعريفة أبي، الله… .تنهدت طويلاً، وقلت في نفسي متهكماً..! شكراً للحكومة… ! معقول…! أعدتم للتعريفة هيبتها، بعد أن اصبحت ذليلة منحطة ليست ذات قيمة ونستحي حملها في جيوبنا أو اخذها كباقي عند الشراء، مين ظل يحكي بالتعريفه بالله عليكم؟ نعم إنها حكومتنا ما غيرها أعادت لنا ذكريات الزمن الجميل الصعب، شكرا لكم، مع أن تعريفة أبي تبقى الأقوى والأحلى، وحلم طفولتنا المتعبة، أما تعريفتكم فأصبحت موضوعا للتندر على صفحات التواصل، حتى أنهم ينعتوكم بحكومة التعريفة..! عجبكم؟ هاي قيمتنا عندكم على رأي حجاتنا!…
على كل حال دعوني اتذكر والدي وتعريفته رحمه الله ، وقصيدة كريم العراقي:
آه كم أشتاقُ أيام أبي… ذلك الرجلُ الرهيب العصبي العصبي… إنه أورثني الحزن، ولكن مدّني..بالعزم والعزة والصبر الأبيّ… .فحملت العِبء طفلا ودُموعي لُعَبي.. وبكى حين رآني ناجحاً… .ورِضى عينيه أطفى تعبي… ..إنما كان أبي قاسيا فعلاً. ويُخفي نهر حبٍّ عذِبِ… قلبه قلبُ صبي، صبره صبُر نبي رحم الله أبي وآباءكم جميعا… .ورحم الله حكومتنا ولجنة التسعير، وشكرا على التعريفة مع إننا نطمح بالشلن،( ولو كانت هواة مقفي) ورحم الله والدي فتعريفته تبقى الأغلى وتعريفتكم (بتغم البال)… .حمى الله الأردن.