البطاينة يكتب : قراءة في دواليب استراتيجية الأمن القومي الامريكي الاخيرة

119

كتب المهندس سليم البطاينه

الأربعاء ١٢ اكتوبر ( تشرين أول ) صدرت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المعروفة بإسم ( استراتيجية إدارة بايدن – هاريس للأمن القومي ) والتي جاءت مُقسمة حسب المناطق الجغرافية في العالم … فقد نشرها موقع American Conservative الأمريكي وكان عدد صفحاتها ٤٨ صفحة خصص منها صفحتين فقط لمنطقة الشرق الأوسط ، حيث تعتبر أمريكا أن العالم كله وفضاءه الكوني حدود أمنها القومي.

 

فإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية هي وثيقة ترسلها الإدارة الأمريكية إلى الكونجرس ، تحدد من خلالها الإهتمامات الرئيسية للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية حيث تقدم مرة واحدة كل ٤ سنوات.

 

علمًا أن الحرب الروسية الأوكرانية كانت السبب الرئيس في تأخير إعلان استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.

 

ما يهمنا من تلك الإستراتيجية هو الجزء المختص بالشرق الأوسط ، حيث لا جديد ولا مفاجاءات اللهم إلا على صعيد اللغة المستخدمة بالإبتعاد عن التعبيرات التي تستفز وتثير قلق دول الخليج بشأن رفض التورط في حروب الشرق الأوسط الأبدية ، ومطالبة الدول بالدفاع عن نفسها ، وجددت الإستراتيجية الجديدة الإلتزام الصارم بأمن اسرائيل مع التأكيد على عدم وجود حل عسكري لأزمات المنطقة.

 

علماً ان العبارات وصياغتها داخل الوثيقة كانت أكثر ذكاء وغموض بنفس الوقت ، وبعض العبارات كانت بمثابة اعتذار عن عقود من السياسات الأمريكية ذات الطبيعة العسكرية … وهي أشبه بإعلان التوبة من التوجهات التي أنتهجتها إدارة الرئيس السابق ترامب.

 

والملفت للنظر أن الإستراتيجية الجديدة جاءت في أعقاب الأزمة الأخيرة مع أوبك ، فقد جرى تغير لبعض المواقف فيما يختص رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لكثير من الملفات حول العالم ، وخصوصًا في الملف الإيراني حيث حددت الإستراتيجية أسلوب معالجة أنشطة طهران النووية عبر استخدام الدبلوماسية الهادئة.

 

والتوجه الجديد حسب ما ورد في الإستراتيجية هو التزام الولايات المتحدة الأمريكية بإطار عمل جديد لسياستها بالمنطقة يستند إلى التزامها ببناء شراكات وتحالفات واستخدام الدبلوماسية للحد من التوترات ، والمحاولة من تقليل مخاطر نشوب صراعات جديدة ، ووضع أسس استقرار طويل الأمد ، حيث تم تحديد خمسة مبادىء لتحقيق ذلك ، أولاً : دعم وتعزيز الشراكات مع الدول الملتزمة بقواعد النظام الدولي وضمان قدرتها على الدفاع عن نفسها.

 

ثانياً : عدم السماح لقوى إقليمية أو خارجية بتهديد الملاحة عبر الممرات المائية ( مضيق هرمز وباب المندب ).

 

ثالثاً : التصدي للتهديدات التي تستهدف الإستقرار وخفض التوترات وإنهاء الصراعات بالطرق الدبلوماسية … رابعاً : تشجيع التكتلات الإقليمية بإقامة روابط سياسية وأمنية واقتصادية بين بلدان المنطقة مع أمريكا في تكامل الهياكل الدفاعية الجوية والبحرية ، والتأكيد على أمن إسرائيل ، وتأييد حل الدولتين ، لكنها للأسف لم يرد فيها ذكر لمفاوضات سلام ترعاها أو تقترحها.

 

خامساً : تشجيع حقوق الانسان.

 

وأشارت الوثيقة أيضًا أن التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية لأمريكا هو إعترافها بصورة مباشرة لعدائها للصين ، فقد حضيت الصين على نصيب الأسد من صفحات الإستراتيجية لما تشكله من تهديد استراتيجي واسع للولايات المتحدة الأمريكية ، وحسب ما ورد بالإستراتيجية فإن الصين تسعى لتأسيس عالم متعدد الأقطاب وهذا ما ترفضه أمريكا … وقد أبرزته الوثيقة بشكل مفصل … وكان الإقرار الأمريكي بأن الصين هي المنافس الوحيد الذي تتوافر لديه القدرة على إعادة تشكيل النظام العالمي من حيث قدرة الصين الإقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والتكنولوجية.

 

وأن مصطلح كبح جماح روسيا الذي ورد في الإستراتيجية يشير إلى أن واشنطن لا تريد أن تتمتع موسكو بأي فوائد من مواردها ، علمًا أن الكثير من المحللين السياسيين في العالم يرون أن الأوضاع في أوكرانيا قد تتغير في أي وقت وتنقلب الخسائر الروسية إلى مكاسب.

 

فمسرحية تبادل الأدوار بين الإدارة الأمريكية ومجلس النواب الأمريكي والكونجرس لا يحجب حقيقة تخلي أمريكا عن دول عديدة في المنطقة كحليف استراتيجي ( تركيا والسعودية ) ، بل يعزز القناعة بأن أمريكا عازمة على إضعاف دول كثيرة في المنطقة واستنزافها تمهيداً لتفكيكها بشكل بطيء.

 

ففي مراجعة بسيطة وقراءة متأنية للأحداث المتعاقبة في معظم دول المنطقة تعطينا إشارة واضحة إلى توجه معظم الإستراتيجيات الأمريكية السابقة ( منذ عهد الرئيس كلينتون وبوش الأب إلى يومنا هذا ) نحو تفكيك الدول الإقليمية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.

 

وبعيداً عن الخوض في نظرية المؤامرة هنالك ثمة ملامح ومؤشرات تُشير إلى إستراتيجية ناعمة ينتهجها الأمريكان هدفها تفكيك الدول الكبيرة في المنطقة ! فاللغة التي صيغت بها الإستراتيجية لا تخفي حقيقة المضامين الفعلية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ، فهنالك عبارات فضفاضة وردت في الإستراتيجية لا تطمس وقائع السياسات التي تعتمدها الإدارة الحالية والتي تسببت في إختلال علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بكثير من دول العالم ، وزعزعة أمن وإستقرار المناطق الرئيسة في العالم وفي مقدمتها الشرق الأوسط.

 

فالكثير من المحللين السياسيين الأمريكيين وأعضاء سابقين في مجلس الأمن القومي الأمريكي علقوا بسخرية من تلك الإستراتيجية الجديدة لبايدن ، فالباحث في مجلس Atlantic Council الأمريكي للأبحاث السياسية والعضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي William Fishler علق على الإستراتيجية ساخراً حيث قال أن الفيلسوف الفرنسي والذي عرف بنقده الساخر Voltaire رأى في القرن الثامن عشر أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة لم يكن لها نصيباً من اسمها ! فلا هي مقدسة ولا رومانية ولا هي إمبراطورية.

 

أما العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي Daniel Fried أعرب عن غضبه من أن تطرح بلاده دائماً إستراتيجيات تحوي أفكاراً عظيمة لكنها تفشل غالباً في تنفيذها لأنها متضاربة الأهداف وغير واقعية على حد قوله.

اترك رد